سر اليابان الكبير

قضيت عمري أرفض الإنقياد بكافة صوره وأشكاله، الإنقياد الأعمى خلف فكرة أو شخص أو جماعة أو مؤسسة، فغالبًا ما يعكس الإنقياد الرغبة في إلغاء الإرادة الحرة للأفراد وكبت أفكارهم وتطلعاتهم وخاصة المغايرة لإرادة وتطلعات عاشقي السلطوية والتحكم، وأستثني من ذلك الإدارة الواعية الحكيمة التي تقود أفرادها للنجاح و تحرص على مصالحهم جميعا، ولكن يبقى السؤال دائما.. كيف نفرق القيادة الرشيدة التي نحب الانقياد لها عن القيادة الهمجية العشوائية التي لا تسعى إلا لمصالحها و الاستمتاع بقوة السلطة وإلقاء الأوامر؟
خلال إحدى مهمات العمل، ذهبت لمؤسسة حكومية كبرى، وفي أحد المكاتب كان لقائي مع الموظف المختص، وبمجرد دخولي المكتب لاحظت وجود شاب ذو ملامح آسيوية واضحة، وفي أثناء حديثي مع مصدري، سألته “مين ده؟ شكله صيني” فقال ” لا ده ياباني وأسمه شهاب” فقلت “ياباني بيعمل إيه هنا”؟ فقال “ده متطوع بيشتغل معانا كده من غير فلوس”.
بالطبع أثار الأمر فضولي للحد الذي دفعني لطلب الحديث معه فور انتهائي من حديثي مع الموظف المصري، كانت كلماته عامية متقطعة وأغلبها غير مفهوم، سألته” ازاي اسمك شهاب”؟ فقال “لا، اسمي شو هي، يشبه شهاب، اسم عربي” فسألته “بتعمل إيه هنا يا شهاب وازاي متطوع”؟ فقال “انا متطوع من جابان، شركة بعتتني، هنا متطوع بس في مرتب شركة”؟ فسألته “شركة إيه وازاي متطوع وبتاخد مرتب” فقال “لا شركة هي بعتتني متطوع”؟
وبعد معاناة طويلة من محاولة فهم كلماته وإعادتها أكثر من مرة وأحيانا لجوئنا للإنجليزية كلغة مشتركة، عرفت أنه جاء إلى مصر ضمن برنامج تعاون مع اليابان، من خلال شركة بنفس التخصص الذي جاء متطوعا إليه، وهذه الشركة ترسل المتطوعيين مع توفير مرتبات لهم، دون تقاضي أي أموال من الحكومة المصرية، بالإضافة إلى أن هناك الكثير من اليابانيين في مصر متطوعيين مثله في مجالات ومؤسسات مختلفة.
واستكمالا سألته “عايش ازاي في مصر”؟ فقال “أكل وشرب وإيجار كتير، مرتب قليل اوي” فسألته “وبتعمل ايه غير الشغل”؟ فقال “متطوعيين جابانيين ميتينج بين وقت ووقت كتير، اروح مركز ياباني بس ممنوع خروج من بيت بعد 12 ليل” فسألته “ليه”؟ قال”دي كلام شركة”؟
أذًا هنا نلاحظ، أن هذا الموطن الياباني، جاء الى مصر، أقصى بقاع العالم بالنسبة له، متطوعا بأمر من حكومته ومن خلال شركته، بأجر ضعيف جدًا، بالكاد يكفيه كما فهمت منه، ويلتزم بأوامر الشركة التي ليس لها رقابة عليه، ويعمل هنا بلا أجر ويتعرض لضغوط بلد غريبة وشعب فضولي حشري تجاه الأجانب عامة، ولكن هذا ليس كل شئ..
“شهاب، ممكن أصورك”؟ قال “اسأل شركة في جبان” فقلت “تسأل الشركة ليه”؟ فقال “اسأل شركة عشان صورة، ممكن يقول لا” وأتصل شهاب أمامي بشركته في اليابان، ليسأل إن كان مسموحا له بإجراء لقاء صحفي أم لا، وهل يجوز التقاط صورة له أم لا، بالطبع كنت أجلس أمامه في ذهول تام، وبعد أن انتهى، علمت انهم موافقون على المقابلة الصحفية ولم يوافقوا على التقاط صورة له، ورغم أني بالفعل التقط صور له، إلا انه رجاني ألا أنشرها، وما كان مني إلا ان قلت له “ليه أنت خايف، هم مش هيعرفوا إني نشرت الصورة”؟ فقال “لا صورة لا، شركة بتقول لا”
وهنا علينا أن نسأل أنفسنا، لماذا لدينا شغف فطري بالتمرد وعدم الإلتزام بالقواعد، لماذا نفتقد هذه الرقابة الذاتية في كل شئ حتى في ديننا وليس اللوائح والقوانين، لقد فجر شهاب في عقلي مئات الأسئلة، ولم أجد إجابات وافية تقنعني، هل السبب تقدم اليابان؟ فهم يثقون في إدارتهم لهذا الحد، هل السبب أننا أعتدنا على توفر العقاب قبل الثواب فتعلمنا التمرد؟ هل السبب أننا اعتدنا على التسلط والمراقبة للحد الذي وصل بنا لعدم الإلتزام بشئ إلا جبرًا؟ هل السبب شعورنا الدائم بالظلم وإفتقارنا لإحترام الحقوق والحريات المفقودة غالبًا في بلادنا؟
وهذا المواطن الياباني، لماذا لم ينتقد إدارته وأوامرها التي سنعتبرها جميعا مجحفة؟ لماذا لم يتذمر من راتبه البسيط رغم غربته هنا؟ لماذا حرص على أومر شركته وتنفيذها عبر هذه الأميال؟
لازالت الأسئلة مطروحة دون إجابات..

شاهد أيضاً

( أرمى الطبله وخليك معانا )

مصر تضيف رصيدا جديدا لدورها الفاعل فى المنطقه بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وتظل …