الطلاق من الإيمان

كم من بيوت مستمرة وقائمة كديكور، كبيوت أوراق اللعب، كمكعبات الأطفال، يعيش فيها أصحابها كأشباه بني آدمين، كالأشباح، كالزومبي، يأكلون ويشربون ويضحكون ويبكون بلا شغف أو رغبة، يسيرون كالآليين في حلقات دائرية لا نهائية من الروتين والرتابة، لا ينتظرون شيئا، كل ما يفعلونه في الحياة ينطوي على الزيف.

كم من بيوت تخفي خلف جدرانها العذاب، والإهانة، والذكريات المؤلمة، الكذب والخداع، الخيانة، الخذلان، الإهمال، النكران، الاستغلال، التحقير والاستخفاف، الغليان والنفور، الحيرة والتوتر، الاستنزاف والاستفزاز، القهر والظلم، علاقات مريضة كالخيول المريضة التي تنتظر رصاصة الرحمة، لترقد بسلام، ولكن العادات والتقاليد تأبى ان تعطي كل فرد منها الحق في بداية جديدة، بل تدفع الجميع لاختيار التعاسة الأبدية ملئ إرادتهم.

إن للعلاقة الزوجية قدسية عظيمة، حتى كانت غير قابلة للهدم في الديانة المسيحية، كما أفرد الله لها من الأيات في القرءان الكثير ووصفها بالميثاق الغليظ، وفي السيرة النبوية من الدروس والعبر ما يفوق روعتها كل القصص الرومانسية، ولكننا حوّلنا تلك العلاقة المقدسة الجميلة القائمة على المودة والرحمة قبل الحب، إلى سجن وعقاب ومأساة، نحن بارعون في إتعاس أنفسنا، وحاشا لله أن يخلقنا لنختار التعاسة والألم اختيارا.

 لقد أفرغنا جوهر الزواج من حقيقته التي أرادها لنا الله، وجعلناه شرا لا بد منه و ابتلاء يوجب الصبر، وهو ليس كذلك على الإطلاق، حولنا النعمة إلى نقمة، نعم نعمة كبرى، بل أهم وأعظم نعم الله علينا، نعمة السُكنة والوليف والمؤنس والسند، نعمة الصحبة الطويلة التي لا غرض منها، نعمة المُتكأ في السراء والضراء، وفي الصحة وفي المرض.

صار الزواج هدف وغاية، يحملون الشباب همه ماديا فقط، ويتسابق البنات إليه وكأنه جائزة كبرى، وهو من كل ذلك برئ، لأن الزواج وسيلة لحياة أفضل وطريقة مُثلى لتحويل طاقات عواطفنا لاتجاه صحيح راق يليق بأبناء آدم المكرمون فوق الجن والملائكة وسائر المخلوقات، والحقيقة أن الجهل بجوهر الزواج وتحريم الطلاق الذي أحله الله، كان السبب الرئيسي وراء انتشاره وتفشيه، فالتربية غير الدينية التي تعتمد على العادات والتقاليد المنافية للدين والعقل والمنطق، جعل باب الخروج من دائرة الزواج الفاشل مستحيلة ومهينة، وهو ما دفع الأطراف المريضة في هذه العلاقات الي الاعتماد علي ذلك وتحميل كاهل الطرف الأضعف أضعاف أضعاف احتماله، ولا عجب فماذا يملك غير التحمل وقد حرم المجتمع الطلاق؟ ولو أنكم سهلتم الطلاق ولم تتخذوه عارا وخزية لخشى كل فرد في علاقة زواجه على الطرف الآخر من أن يخسره ولحسّن كلا منهما من نفسه لإنجاح العلاقة كما تنبغي، ولكن لماذا يتعب نفسه وهو غير مضطر لذلك؟

إذا كان الله قد أحل هدم الكعبة المشرفة التي هي بيته الحرام، البقعة الأكثر قدسية وأهمية علي الارض، في سبيل ألا يسال دم فردا واحدا، فكيف بقلبه، فكيف بعمره، فكيف بحقه في استقرار وهدوء باله، فكيف بسعادته؟

خُلقنا علي الأرض لنعمرها بعد عبادة الله، فكيف لنا أن نعمر شيئا وسط أجواء تستنفز طاقاتنا؟ أو كيف لنا أن نتقرب لله مع أكوام الطاقة السلبية والمشاحنات التي تدفعنا لمشاعر الكره والسأم بخلاف حماقات الغضب؟ ام كيف نربي ابناءنا على حب الحياة والتفاؤل والأمل؟ وكيف نخدع أنفسنا بأن في الأمر شيئا من التقرب لله بالصبر على البلاء، إنك في تلك الحالة تختار البلاء بنفسك ولست مجبرا عليه، وإلا فلماذا لم يحرم الله الطلاق؟

عندما نتأمل قول النبي”إن أبغض الحلال عند الله الطلاق” سنعي أنه فعلا مكروها ولكنه مباح ومن الحكمة أن نتدبر في ذلك، فكراهة الأمر لم تلغ استحلاله، وإنما تخبرنا أن نتأنى جيدا ونحذر في اتخاذ هذا القرار، وأن نتفاداه بكل ما أوتينا من قوة، و نتعب في تجنبه والخروج من دائرته ونبذل ما نستطيع من جهد ولا نستسلم له سريعا، ولا نستسهله، ولا نتوقف عن محاولة إبعاده، ولكن في استحلاله ما يخبرنا أن هناك ما سيدفعنا للجوء له وأنه قد يكون حل نهائي في الكثير من الأحيان وهنا تكمن حكمة استحلاله وليس في نظام الله ومنهجه شيئا من العبث والعشوائية.

الكل يسأل وماذا بعد الطلاق؟ ولكن الله قد أجاب حين قال “وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته” وهذا يعني أن الله الغني الكريم الرحيم بعباده هو الوحيد القادر على أن يعوض كل منهم ويغنيه عن الآخر الذي رحل عنه، لن يسد الطلاق ابواب الله، لن تنتهي الحياة، وربما تصبح أفضل، وإن كنت مخلصا لله وحققت حكمة الله في كراهة الطلاق قبل اللجوء له، فإن الله لابد ناظرك وناصرك، ولنا في نبينا الأسوة، فقد تزوج المطلقة والأرملة، بل لنا في عهده كل الأقتداء، فكانت المرأة حرة تطلق وتتزوج وتطلق وتتزوج وليس في الأمر استهانة بالزواج، وإنما تعظيما لأهمية حرية وراحة الأفراد ومساعدة لهم علي تحقيق الأهم وهو العبادة والعمران، على المهم وهو الزواج، واتخاذه وسيلة للسعادة وعونا على الحياة وبحثا عن الغايات السامية فيه.

وربما يكون الطلاق بداية جديدة، وتجربة رغم قسوتها فارقة وباب لزواج أخر أفضل وأكثر متانة، أو درسا كبيرا يتعلم أصحابه كيفية التعامل مع شريك العمر وبزل من أجله المزيد والحرص على حفظ بيته لتجنب تكرار الأمر.

وماذا عن الابناء؟.. إنني في الحقيقة أسخر كثيرا من علاقات الزواج الفاشلة التي يكون أحد طرفيها يعاني ما لا يحتمل وفرغت منه كل الحيل في تصحيح علاقة بائسة لا فائدة من استمراها إلا مصلحة الأبناء، أي مصلحة تقصدون؟ الأمراض النفسية التي تصيبهم بسبب بيوتهم المحرومة من الحب والتفاهم، أم رؤيتهم لأهم وأقرب الناس إليهم تعساء لا يجمعهم شئ إلا العراك و الإهانة، أم أن هؤلاء الأمهات والأباء ضعيفي الإيمان، أرحم علي أبناءهم من ربهم، رب العالمين، خالقنا جميعا، هل سيمنع الطلاق قدر الله في شئ؟ بالطبع لا، هل سيمنع الطلاق فشل الأبناء في الدراسة، أو البنت من الزواج، أو الشاب من استكمال حياته؟ بالطبع لا، إذا فالطلاق رغم كراهته إلا أن له حكمة عظيمة من الله، ودربا من الإيمان.

 

شاهد أيضاً

( أرمى الطبله وخليك معانا )

مصر تضيف رصيدا جديدا لدورها الفاعل فى المنطقه بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وتظل …